خطة مكافحة التصحر.. ضرورة لابد منها…

فوجئت بالسرعة التي تجمعت بها حبات الرمال الصغيرة البيضاء على ملابسي وأنا ممدد باسترخاء على الأرض في الخلاء، بعد أن نزلت مع الركاب المتوجهين من تعز إلى عدن، لأخذ بعض الراحة على الطريق، لم تكن هناك رياح ولا هبوب وكانت سرعة الهواء عادية، ولكن حبات الرمال الصغيرة كانت تزحف بدأب في ذلك الخلاء الصحراوي الرحب مكونة تلالا وكثبانا متفرقة. أحسست حينها بالرعب وأنا أتخيل أنني قد أقبر حي لو غفوت لساعة أو ساعتين، ما دام معدل زحف الرمال بهذه السرعة.
هذه هي حقيقة التصحر الذي أصبح أخطر ما يهدد البساط الأخضر والتنمية الزراعية في اليمن، إذ يعد التصحر الخطر البيئي الأول فيه، وقد تسبب فيه سوء استغلال الإنسان وتعامله مع الموارد الطبيعية، وكان هو أول ضحاياه. وقد خسر اليمن خلال السنوات الخمس الماضية فقط، ما يتراوح بين 34 ألف إلى 174 ألف هكتار من مساحة الأراضي الكلية، وفقا لدراسة حديثة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، حيث وضعت الدراسة اليمن ضمن نطاق مناطق العالم التي تناقصت مساحة الغابات فيها بمعدل يتراوح بين 11 ألف -30 ألف هكتار سنويا خلال الفترة الممتدة من 2005-2010.
وقد بدأ الحديث عن التصحر في اليمن منذ الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن رغم هذه التجربة العميقة والوعي المبكر بها، إلا أن التصحر مازال يتفاقم يوما بعد يوم ويهدد التقدم الاقتصادي والاجتماعي للبلاد وسكانها، حيث تمتد الأراضي القاحلة وشبه القاحلة في مساحة تزيد عن 68 في المئة من إجمالي مساحتها.
ومن داخل هذه الاراضي القاحلة تقول سعاد محمد صالح من قرية تبن في لحج، وهي تقتلع بصعوبة قدميها من الرمال الكثيفة في كل خطوة تخطوها: إن الرمال قد تجمعت خلف أسوار البيوت في طرف القرية حتى صارت مع مستوى السقف تماما، ويمكنك أن ترى من على الطريق وبسهولة ما بداخل هذه المنازل، إذا ما سرت فوق الكثبان الرملية، وتضيف أنها تخشى أن تندثر هذه القرية عما قريب وتصيرا أطلالاً إذا ما لم يتوافر حل لهذا الزحف الدؤوب، وخاصة ان أقدم مدرسة ابتدائية بالقرية قد حاصرتها الرمال من جميع الجوانب مما استدعى أن تغلق أجزاء كبيرة منها ويعاد تخطيطها من جديد.
التصحر في اليمن…

خبير الجغرافيا والاستشاري بمكتب خدمات البيئة والتنمية الأستاذ/ محمد عثمان قال: «ثلثا اليمن متأثر بالتصحر، وتنحصر المناطق المتصحرة في اليمن في المناطق الجنوبية والشرقية في مساحة تعادل بالتقريب 68 في المئة من مساحة البلاد، وتم تقدير أبعاد التصحر في اليمن باستخدام نظم المعلومات الجغرافية التالية: استخدامات الأراضي، الجيومورفولوجيا، المستوطنات البشرية، نمط التربة والتصريف وتوزيع الأمطار، وتم التعرف على خمس درجات للتصحر: حاد جداً، حاد، متوسط، بسيط وبسيط جداً». وأوضحت الخرائط التي أعدتها وحدة تنسيق برامج مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف، التذبذب في هطول الامطار. وكانت أكثر النتائج إثارة هي تراجع خطوط التماطر خلال الفترة 1970-1990 من الشمال إلى الجنوب مما يعني زيادة في المساحات الأكثر جفافاً ويجب التفكير جديا في كيفية استعادة البيئات المطيرة القديمة من خلال حمله قوميه تساندها إرادة سياسية، وتستند تقديرات واتجاهات تدهور الأراضي على التفاعل بين عوامل مثل المناخ والتربة والغطاء النباتي والأنشطة الحالية للبشر، وبهذا يمكن جمع المحافظات المتأثرة بالتصحر في المناطق الجنوبية والشرقية من اليمن.

عوامل بشرية

الإنسان مسئول بصورة كبيرة عن ظاهرة التصحر كما يقول عثمان، «فمن اهم الاسباب التي ادت لزيادة زحف الصحراء سوء التخطيط وعدم وضع السياسات والبرامج الخاصة بالتنمية، فالتعامل مع الموارد الطبيعية يتم بطريقة استنزافية لعدم وجود مخططات علمية تراعي الاستدامة البيئية»، وتشكل الزراعة المطرية الآلية سببا جوهريا للتصحر حيث بدأت في الأربعينيات وتوسعت في سبعينيات القرن الماضي بإقامة مشاريع استثمارية مخططة وأخرى عشوائية.
الرعي الجائر يشكل أيضا أكثر أسباب التصحر شيوعاً في كل انحاء اليمن وتحديدا حول محطات المياه حيث يتسبب السحب الزائد في تخفيض مستوى المياه الجوفية، خاصة بعد زيادة أعداد الثروة الحيوانية (أكبر من الطاقة الرعوية المتاحة) نتيجة للتوسع في برامج التحصين.
ومن الأسباب المهمة التي أدت إلى ظاهرة التصحر إزالة الحشائش والغابات، لمختلف الأسباب كالاستخدام المنزلي والصناعة، ومن أسبابه أيضاً الزحف السكاني على بعض المناطق التي لم يكن يصلها الإنسان من قبل، بسبب تقديم الخدمات كمياه الشرب مما جعلها مناسبة للإقامة، وبجانب العوامل البشرية التي تسبب فيها الانسان فهناك اسباب طبيعية للتصحر كالجفاف إذ إن كل كميات الأمطار في اليمن يأخذها التبخر، وتعاني أغلب المحافظات من ارتفاع معدلاته فهو بلد جاف خريفه ثلاثة أشهر فقط. كما أن أمطاره مدارية تتراوح ما بين 50 مم في الشمال وتزيد كلما اتجهت جنوبا لتصل 1200 مم في أقصى الجنوب، وأوضح عثمان أن الجفاف ليس ظاهرة جديدة على اليمن فمنذ القدم كان الاعتماد علي الأمطار، ويضيف ان هناك العديد من العوامل التي أدت إلى زيادة معدل التصحر حاليا منها، الاحتباس الحراري، فارتفاع معدل الحرارة مؤخرا أدى إلى تسخين الغلاف الجوي وأثر بدوره على حركة الرياح وبالتالي تغيير معدل الأمطار.

عواقب وخيمة

يشكل الجفاف والتصحر عائقاً حقيقياً للتنمية الزراعية المستدامة بسبب غياب ثلاثية استخدام الأرض من تخريط وتخطيط وتشريع، ويهدد قطاع الري ومشاريع الزراعة المطرية الآلية والتقليدية، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد القومي، ويعمل بها أكثر من 60 في المئة من سكان البلاد ،وتساهم بحوالي 40 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وقد تدنت إنتاجية مساحات شاسعة من التربة وأغلب الأراضي الخصبة بسبب الزحف الصحراوي، بما في ذلك مشروع المزرعة، إضافة إلى تدني طاقات المراعي، ويؤثر ذلك في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان، ويظهر هذا الأثر في هجرة المزارعين والرعاة من الريف إلى المدينة وبالتالي تدهور الخدمات الاقتصادية والاجتماعية للسكان.
من جهة أخرى، يشير عضو هيئة المستشارين في قطاع البيئة بمجلس الوزراء بشير عبدالله: «أن الخطورة الكبرى تتمثل في زحف الكثبان الرملية النشطة في المحافظات الجنوبية والشرقية بمتوسط 15 متر في العام مسببة أيضاً تنتقل حبيبات الرمل من سطحها الهش إلى مشروع المزرعة، ويضيف، «ويتعاظم تهديد الزحف الصحراوي لأراضي الغابات لحدود خطيرة على البيئة واقتصاد البلاد، خاصة الحزام المنتج للبان العربي في حضرموت والذي يعتبر محفز حيوي pro-biotic لعلاج السرطان وكلا من الفشل الكلوي والكبدي وكذلك أمراض الضغط والسكري وكبديل للمضادات الحيوية anti-biotic لتفادي مخاطرها الصحية والتي أثبتتها حديثاً الهيئات العلمية لذا أستثنى من قائمة الصادرات اليمنية المحظورة، ويقود كل ذلك إلى نشوب الصراعات حول الموارد وتدني المستوى البيئي، وتنقل الكثبان الرملية الذي يبدو جلياً في تراكم الرمال في معظم محافظات حضرموت والمهرة، وعلى الأراضي المنتجة في لحج، التي تتعرض لزحف خطير من الكثبان الرملية».

مشروعات عديدة

وفي مواجهة التصحر، قال مدير معهد دراسات التصحر مصطفى عبد الرحمن: «تنفذ الحكومة بعض المشاريع القومية وأخرى مدعومة من الخارج إضافة إلى بعض خطط المشاريع المستقبلية في المناطق المتأثرة بالتصحر في معظم المحافظات، إلا أن تأثيراتها موقعيه ومحدودة؛ نظراً لاتساع المساحات المتأثرة وشدة تدهورها، منها مشروع تعمير حزام البان العربي، وتتضمن المشاريع توفير بدائل الطاقة ورفع كفاءة استخدامها بالغاز، الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الاستفادة من المخلفات الزراعية والكهرباء، وإعداد خطط شاملة لمجابهة الجفاف والإغاثة في فترات الجفاف وإعداد برامج للعناية باللاجئين والنازحين، وضع مؤشرات وعلامات لرصد مدى التقدم في مكافحة التصحر، وضع نظام للإنذار المبكر». ويقول: «نتيجة للوعي المتنامي للمشكلة، تم وضع تشريعات وسياسات تهدف أولاً؛ لتحقيق الأمن الغذائي والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والتنمية المستدامة وإزالة الفقر وتخفيف آثار الجفاف ومكافحة التصحر وتمثلت تلك السياسات في إعداد برنامج التعمير ومكافحة الزحف الصحراوي في العام 1976، ثم الاستراتيجية القومية الشاملة (1992-2002)، ثم استراتيجية ربع القرن حتى 2025. وفي فبراير/ شباط العام 2005، تم تكليف لجنة من تسعة خبراء يمنيين، لوضع خطة لأبحاث التصحر في اليمن بهدى بنود الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحر، تصلح لإعداد خطة العمل القومية، وتمكنت من التخطيط لمجموعات متشابهة من المحافظات».
ويوضح عبدالرحمن، «أن من السمات الأساسية للخطة، مراجعة وتوثيق الأعمال السابقة، تحديث قاعدة المعلومات، أهمية الروابط القومية والإقليمية والدولية، الاهتمام بأبحاث التنمية المستدامة، والتركيز على الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية، دراسة التغيير في الحاجة للمياه الجوفية، التركيز على ملوحة التربة، إدارة التربة والأحزمة الواقية وحصاد المياه، أهمية تفعيل التشريعات في استخدامات وحيازة الأراضي، إتباع أسلوب النظم البيئية، اتباع تصنيف اليونسكو للمناطق البيئية، توحيد المنهجية في خطط التنمية». منسق البرنامج القومي لمكافحة التصحر صلاح الدين عبد الله قال: «لأول مرة اشتملت الاستراتيجية القومية الشاملة، على استراتيجية قومية للبيئة، تدعو لتضمين القضايا البيئية في كل الانشطة التنموية، حيث وضع المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية، ومجلس التخطيط القومي بدعم من الأمم المتحدة، استراتيجية قومية للتنمية المستدامة في اليمن، وقد انعكس ذلك في خطة الاستراتيجية التي تمتد إلى ربع القرن والتي تربط بين التصحر والفقر والأمن الغذائي وصيانة البيئة، مع وجود قناعة بأهمية إنشاء صندوق قومي ذي مصادر متعددة للتمويل لمكافحة التصحر، خاصة بعد توقيع اتفاقية الوحدة»، ولكن ورغم كل ذلك، ليس لليمن حاليا سياسات ماليه قومية مخصصه لمكافحة التصحر، عدا موازنات التسيير الجزئية، لبعض الإدارات، ذات الانشطة في مجالات الموارد الطبيعية، تسودها النمطية، ولكن لخطورة التصحر وآثاره السلبية على الحياة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، لابد من التعامل مع الظاهرة بجدية وبرؤى أكثر عمقاً.

جهود متكاملة

عثمان يضيف يقول: «حل المشكلة يكمن في وجود عمل مركز له سند سياسي، وأن تشترك جميع الجهات المعنية لتنفيذ خطة المكافحة، وأهمها وزارة الزراعة، الغابات، وزارة البيئة، الثروة الحيوانية، المجلس الأعلى للبيئة والإدارات الزراعية المختلفة، وعلى كل تلك الجهات ربط برامجها الخاصة بمكافحة التصحر وأن يكون البرنامج بأرض المحافظة، وأكد أن وجود جهاز متابعة مرتبط بالجهات الأجنبية الداعمة وبالجهد الشعبي، سيكون وسيلة مهمة لتحقيق الهدف.
منسق البرنامج القومي لمكافحة التصحر، يرى أن التعامل مع المشكلة قومياً أحد أهم الحلول، فالبعد القومي للتصحر تحتمه مقتضيات كثيرة، منها الانتشار الجغرافي الواسع له، إذ إن ثلاث عشرة من محافظات اليمن تعاني من التصحر، كما أن معظم موارد البلاد مهددة بعامل أو آخر من عوامل التصدع البيئي، وهنالك المخاطر المترتبة عليه في المجالات، الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية، فاليمن ما زال بلداً زراعياً، ترتبط نظم اقتصاده المحلي، بما تنتجه الأرض سواء في مجال الزراعة أو غيرها، حيث تسود في كثير من أجزائه الممارسات التقليدية، التي تعتمد علي عطاء الأرض، بدون مدخلات أو تقنيات حديثة، ويضيف أنه لابد من إيجاد نقاط للالتقاء والتنسيق بين الجهات والسياسات المعتمدة حالياً، لتوحيد الجهود نحو أداء أفضل لمكافحة التصحر».
مدير معهد دراسات التصحر مصطفى عبدالرحمن يقول: «يجب الاهتمام بالعنصر البشري كعامل أساسي وراء التصحر، بتأكيد شراكته في استنباط الحلول وصياغة البرامج وتنفيذها بتنظيمه وتقوية مؤسساته المجتمعية، ثم توفير الحلول الجذرية المتكاملة من خلال وضع سياسة قومية موحدة، حتى تتحقق التنمية المنشودة».
بدوره خبير الغابات كامل شوقي يقول «الحل في كلمة واحدة هي (الشجرة) ولكن من يقوم بتمويل تكاليف زراعتها الباهظة»؟
كارثة الجفاف والتصحر في الثمانينيات، زادت الوعي الشعبي بهاتين الظاهرتين. ووفرت ثقافة عامة للمحافظة على الموارد الطبيعية وحمايتها. ويبقى السؤال هل يكفي الوعي الشعبي لحث الجهات الرسمية علي وضع سياسات مناسبة وتبني برامج مطلوبة؟ وفي المقابل كيف تستفيد الجهات الرسمية والعلمية من هذا الوعي العام كقوة دافعة لها، ولقد خطر لي وأنا أنظر بعمق إلى البيئة وحولي الرمال والصحراء، وبعمق أكثر في وجوه ساكنيها، إن هؤلاء السكان لو قدر لهم أن يصرخوا كما صرخ أرخميدس، عندما وجد برهانا لنظريته «وجدتها وجدتها»، أنهم سيصرخون، أن وجدنا حلاً في التنمية الدائمة المتوازنة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *