يهود اليمن.. حضارة تُرحل!!

yemeni-jewish

مفاجئة من العيار الثقيل تلقها الشارع اليمني عندما أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية نجاح مخابراتها (الموساد) في التنسيق مع جماعة الحوثي لتهريب 17 يهودي من اليمن خصوصاً وإن تلك الجماعة شعارها التي تتغنى به (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام) وهو شعار عنصري زائف تستخدمه بحسب إملاءات إيرانية كما سبق لي أن ذكرت ذلك في مقالات سابقة، كما إنها تتشدق بتحرير بيت المقدس ووقُفها ضد الاستيطان الصهيوني الممارس بحق الشعب الفلسطيني، وهي التي تقول أيضاً بأن اليمن تتعرض لعدوان إسرائيلي أمريكي سعودي وقد تفننوا في إطلاق المصطلحات عليها فتارة يقولون عنه “العدوان السعوصهيوأمريكي” وتارة أخرى يطلقون عليه مصطلح “العدوان الصهيوأمريكي” وغيرها من المصطلحات الجوفاء والبلهاء التي لا يغالطون بها سوء أنفسهم.

في 22 من أكتوبر2015 كنت متوجهاً إلى العاصمة الأردنية عمّان برفقة صديقي “أنور” للمشاركة في بعض الفعاليات، وعند وصولنا مطار صنعاء الدولي استوقفنا مشهد أسرة كاملة من يهود اليمن مكونة من ثمانية أفراد، وقد كانوا يحظوا بمعاملة استثنائية على غرار باقي المسافرين من قبل أحد الأشخاص الذي كان يبدو إنه ذو سلطة الذي ظل برفقتهم حتى وصلوا إلى صالة المغادرة الأخيرة في المطار، لم أتسال حينها عن سر ذلك الاهتمام المبالغ فيه تجاه هذه العائلة اليهودية مع العلم بأن اليهود في اليمن يعانوا الكثير من ويلات التمييز والتفرقة وخصوصاً فيما يتعلق بحقوقهم السياسية والمدنية والثقافية بسبب ديانتهم التي تختلف عن الديانة السائدة في اليمن (الإسلام) فأبسط مثال على ذلك أن اليمنيين يستخدمون لفظة “يا يهودي” كنوع من الشتم والإهانة في مشاجراتهم وخلافاتهم.

في الحقيقة كان يجرفني الفضول للذهاب إلى أحد أفراد تلك العائلة اليهودية لأتعرف بشكل أكبر على وضعهم الاجتماعي وقياس مدى انفتاحهم وقبولهم من قبل المجتمع اليمني، ومعرفة المشاكل التي تواجههم كأقلية دينية، ولكني لم أتمكن من ذلك كونهم يعتزلون المسافرين ويقعدون في أماكن بعيدة منا، وحين صعدنا الطائرة كان من المصادفة أن يقعد إلى جواري رب تلك الأسرة اليهودية الذي كان يبدو عليه الاضطراب والقلق، فقد كان سؤاله الأول لي “كم المدة التي ستقضيها الطائرة في مطار بيشا؟” – بيشا هو مطار سعودي مخصص للرحلات الداخلية حيث تفرض قوات التحالف على الطيران اليمني المسافر من اليمن أو العائد إليها الوقوف فيه لتفيش – فكان ردي له حوالي الثلاث ساعات وربما تزيد بحسب ما يراه قوات التحالف ولم أكد أنهي إجابتي ليلحقني بسؤال ثاني… “هل تفتيشهم في غاية الدقة؟” أخبرته بأن تفتيشهم ربما يقتصر على البحث عن الأسلحة أو ما شابه ذلك، وبعد انتهائه من توجيه أسئلته بدئنا بالتعرف على بعضنا فأخبرني بأنه يدعى (سليمان) وثم تحدثنا عن الديانة اليهودية وأوجه التقارب بينها وبين الدين الإسلامي فقد فأجئني بإلمامه الكبير للدين الإسلامي ومسائله الفرعية والتفصيلية وكذلك لحفظه للكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

لم أصبر كثيراً حتى قمت بسؤاله عن أوضاعهم في اليمن وماهي المعاناة التي تواجههم، رد عليّ إنهم يعانون من النبذ والذم من قبل المجتمع بسبب انتمائهم للديانة اليهودية وكان أخر موقف تعرض له هو صباح ذلك اليوم عندما كان متجه برفقة عائلته للمطار حيث حصلت مشادة بين سائق التكسي الذي كان يقلهم وشخص أخر وعندما سعى لتهدئة الموقف نهره أحدهم بقوله “أسكت يا يهودي” ووجه له ضربه بالهراوة في يده وعندما سألته عن ردة فعله أجاب لا شيء غير التنحي جانباً والسكوت كي لا أدخل نفسي في دوامه تكون سبباً في ضياع سفرنا، فأنا أعرف رد فعل السلطات بل وقد جربته عندما سُرق من منزلي 25مليون ريال فهم لم يتعاونوا معي في استقبال شكواي والبحث عن الجناة الذين سرقوا مالي، مما اضطرني لبيع سيارتي التي كنت أعمل بها ومنزلي من أجل إعادة مبلغ 15مليون ريال لأبناء أختي كون المبلغ لم يكن يخصني وحدي، فقلت له هذا يعني بأنكم تعيشون في عزلة تامة عن باقي المجتمع رد عليّ بالنفي قائلاً ليس تماماً فأنا لدي أصدقاء من اليمنيين المسلمين فأنا قد تعرضت لمقلب من أحدهم عندما طلب مني أن أحمل سلاح الكلاشنكوف يحمل شعار جماعة الحوثيين ليقوم بتصوري ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتلقى رواجاً غير عادي عند الكثير من اليمنيين ولم أكون أعلم بأنه قد قام بنشرها لأفاجئ بسيل من الاتصالات من قبل اليهود اليمنيين المتواجدين في أمريكا وإسرائيل وغيرها من البلدان يسألونني عن سر تلك الصورة فأوضحت لهم بأنه مقلب قد تعرضت له من أحد الأصدقاء، بعدها طلب منه صديقي “أنور” أن نأخذ صورة سيلفي لصفحتنا على الفيس بوك فرحب بطلبنا وعندما بدأنا في التقاط الصورة قمنا برفع أصبعينا (السبابة والوسطى) كحركة عفوية لم نهدف بها لشيء ليصيح فينا معارضاً أرجو منكم إنزال أصابعكم كون هذه الحركة ترعبني فهي تعتبر شعاراً لكم تعنون به (أما النصر أو الشهادة) وهذا لا يعني السلام، لذلك أرجو منكم أن تبسطوا أياديكم كتعبير عن السلام.

وبينما نحن نتناول وجبة العشاء على متن الطائرة سألته عن الواجهة التي يقصدها هل هي أمريكا أم إسرائيل؟ فقال بأنه سيتوجه إلى الأردن ويبقى فيها أسبوع وبعدها سيسافرون إلى إيطاليا ويقيمون فيها شهرين ومن ثم سيسافرون من جديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مقاطعاً قلت ومن بعدها إلى إسرائيل فأجاب كلا فنحن سنقيم في أمريكا حيث إننا سنحصل على الجنسية الأمريكية في غضون ثلاثة أشهر أو أقل، فسألته كيف استطعت أن تنسق لهذه الرحلة خصوصاً بأن السفارة الأمريكية في صنعاء مغلقة كباقي مثيلاتها من السفارات والهيئات الدبلوماسية فقال إن هناك منظمة رفض أن يذكر أسمها هي من تكفلت بكل شيء.

وعند وصولنا مطار بيشا في المملكة العربية السعودية كان يظهر على وجه “سليمان” التوتر والقلق وما زاد من قلقه هو إعلان كابتن الطائرة “إن على الركاب الذين يمتلكون بحوزتهم مبلغ أكثر من عشرة ألف دولار التوجه إلى مقدمة الطائرة بحسب توجيهات قوات التحالف” فما كان منه إلا القول لنا أملك 15ألف دولار وأكثر من 120ألف ريال سعودي في شنطتي الخاصة فماذا عساي أن أفعل فأخبرنها بأن يسكت ولا داعي لذهاب إلى مقدمة الطائرة لتخبرهم بذلك فهم لم يقوموا بتفتيش الشنط التي في مقصورة الركاب، وبعد حوالي نصف ساعة من التوقف بداء ضباط الجمارك السعودي بالتدقيق في جوازات المسافرين وتليهم المخابرات السرية السعودية حيث أخذ منه ضابط المخابرات جوازه، ويعتبر هذا الإجراء روتيني يتم تطبيقه على المسافرين الدبلوماسيين وكذلك بعض المسافرين العاديين ليتم التحقيق معهم عن وجهة سفرهم وأسبابها بأسلوب فض وحقير، “سليمان” كان في قمة الخوف عندما تم أخذ جواز سفره وكان يقول أنا قد قلت لها إنها ستسبب لنا المشاكل لكنها لم تفهم وعند سؤالي عن ماذا يتحدث قال أصرت زوجتي على أن تأخذ معها (المسحقة) وهي عبارة عن حجر منبسط طوله لا يتجاوز 70سنتيمتر وحجرة أخرى كروية الشكل بحجم قبضة اليد تستخدم في هرس بعض الخضروات لعمل الصلصة الحارة التي تعتبر عنصر رئيسي في الوجبات اليمنية، فما كان مني سوء الضحك وقلت له ماذا تريد بها أنت ستسافر إلى أمريكا والكهرباء فيها متوفرة بشكل دائم وتستخدم الخلاط الكهربائي عوضاً عنها فقال لم أستطيع إقناعها بهذا.

وعند انتهاء التحقيق مع الحاخام “سليمان” كما عرفنا مؤخراً عاد إلينا من مقدمة الطائرة سعيداً ومبتهجاً بأنه لم يواجه أي صعوبة في التحقيق وإن الأمور كلها سارت على خير وكان يحمد الله على مواصلته السفر ليصل إلى وجهته، وفور وصولنا مطار الملكة عليا في العاصمة الأردنية عّمان كان في استقباله أمام بوابة الوصول الأولى أي قبل المنطقة التي يحصل فيها المسافرون على تأشيرات الدخول رجل أجنبي، ومن تلك اللحظةلم أرى الحاخام “سليمان” إلا في مطلع هذا الأسبوع بصحبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يسلمه نسخة قديمة ونادرة من التوراةيقدر عمرها بـ 800 عام مكتوبة على جلود الحيوانات.

في الأخير أريد أن أوصل رسالتي لكل من يقرأ مقالي هذا إنّ من يساعد في ترحيل هذه الأقلية من وطنهم الأصلي اليمن إلى إسرائيل هو شريك أساسي في ضرب مسمار جديد في نعش القضية الفلسطينية، ويسعى إلى زيادة الاستيطان على حساب أسر فلسطينية تهجر من بيوتها وأرضيها، كما إن التفريط باليهود اليمنيين هو ضرر واضح بحق التنوع الديني والثقافي والاجتماعي الذي يضفي على المجتمع اليمني نكهة خاصة وفريدة تميزنا عن غيرنا، فترحيل هذه الأقلية ليس ترحيل بحق إنسان يختلف عنا في الدين، وإنما هو ترحيل حضارة وثقافة عريقة يعود تاريخها إلى ألاف السنين…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *